أرجو أن لا يذهب خيال من يقرأ هذه التدوينة بعيدا ، فأنا لست هنا في معرض الحديث عن جماعة الأخوان المسلمين ، وقانا الله شرور الدنيا والأخرة ، ولكني أردت الأشارة الى النفاق الذي يمارس بصورة جماعية في زمان ومكان محددين بين مجموعة أفراد أو ... جماعة ، فتتطور هذه الممارسة الى شكل أكثر تعقيدا بموجب مجموعة من المحددات تجعلها أكثر قربا لأن ينظر اليها كطقوس أو ربما كعبادات بديلة ينتفي فيها السبب الأساس أو الدافع الأصيل للأنخراط في هذه المنظومة من التفاعل النفاقي
لكي أوضح تماما ما أعنيه ، علي أن أسرد أولا حكاية ظريفة تكررت ربما لكل منا عشرات المرات، ولكنها هذ المرة دعتني الى ان أحاول ألا أعتبرها أمرا عاديا يجب ألا نقف عنده بمجرد هز الرأس والنظر بعيدا في الأفق
بدأ الأمر عندما قام أحدهم بدعوتي لحضور مناسبة اجتماعية ، انتفت أسباب اقامتها التاريخية والاجتماعية منذ وقت ليس بالقصير ، وأقام لهذا الغرض مأدبة عريضة ضمت الى جانبي لفيفا من "الاكاديمين" و"المثقفين" ، و لكي لا أستمر في ظلمهم بمزيد من الألقاب النبيلة ، يكفيني أن أشير اليهم بحملة الشهادات العليا
سارت الأمور بشكل اعتيادي ونمطي كما هي عادتها في مثل هذه المناسبات ، محادثات جانبية عقيمة ، وضوح التقسيمات الجهوية والقبلية ، ابتسامات صفراء تتناثر هنا وهناك ، لا جديد يذكر وكثير من القديم يعاد
سارت الأمور بشكل روتيني ، حتى عندما حان موعد احدى الصلوات ، انتفض أحدهم فجأة وأعلن للملأ من القوم أن الصلاة قد وجبت ، فانطلقت حناجهرهم بالموافقة ، واكتنفت وجوههم نظرة خاشعة ، وأقاموا الصفوف وحاذوا بين المناكب حتى اذا نظرت اليهم، ظننتهم بنيانا مرصوصا
سارت الأمور بشكل روتيني، حتى اذا أتموا الصلاة ، علا الخشوع محياهم، ولهجت ألسنتهم بما تيسر من الدعاء الواجب والنافل، ثم قفلوا عائدين ، حتى اذا استقروا في مقاعدهم بدلوا من سحنتهم ، وانقطع الدعاء من ألسنتهم ، واذا سارت الأمور بكلاسيكية أكثر ، يصمت الجميع لدقائق، كأنما يعبرون نفقا برزخيا ، او ينفضون عنهم تقمصا
عادي؟ أليس كذلك، نعم...عادي
لا، ليس بعادي
هذه الوصلة من الأداء الجماعي المتناغم والمحدد بدقة لطقوس ليست من صميم العبادات ، تمارس في حضرة الجماعة فقط ولا تمارس خلال أداء العبادات بشكل فردي الذي من المفترض أن يكون أكثر خصوصية في العلاقة بين العابد والمعبود ، ولكن هذه الطقوس تكتسب أهمية موازية للعبادات الأصلية بالنسبة للفرد ، حتى اذا تقاعس عن أدائها ، أقيم له محاكمة اجتماعية عاجلة ومكتومة ، يقضي حكمها بنبذ المأفون عن بقية أفراد القطيع
ولتفادي هذا، تتحول الطقوس الى عبادات يؤجر أخذها، ويؤثم تاركها ، ويصبح نفاق الجماعة من نافلة الأمور
وأحب أن أطمئن أي قارئ غاضب، مواظب على أداء النفاق، أني هنا لا أنقص أو أشكك في فرضية أو أهمية صلاة الجماعة باعتباراتها الشرعية والمظهرية ، ولكني أود أن ألفت انتباهك الى حقيقة الأمر، أن الصلاة هي ممارسة التقرب الى الخالق ، لا للعبد ، وأن الخلل الكبير في المنظومة الفكرية الذي نعاني منه، قد أباح ممارسة الجرائم الفكرية والأخلاقية ما دامت تمارس بشكل جماعي ، أو أن تحاط بممارسات دينية لا لعلاقة لها بالأساس، فتكسبها بالتالي قداسة تمنعنا من أن ننتقدها